كلمة المحرر

 

العام الهجري الجديد ... دروس وعبر

 

 

 

 

        يودع العالم عامًا هجريًا ويستقبل عامًا هجريًا جديدًا في حين تواجه الأمة الإسلامية فتنًا كقطع الليل المظلم تأتي مشتبهة كوجوه البقر، لايدرى أيها من أي؟ وكلما غشيها رِسلٌ منها تألمت وصَاحت ونَاحت، فإذا انجلى عادت كما كانت، دون أن تحسب لها حسابًا أو تخطط لمستقبلها تخطيطاً، وكأنها كما قال الله تعالى:﴿أَوَلايَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَيَتُوبُونَ وَلاَهُمْ يَذَّكَّرُونَ[التوبة/126].

     ألله أكبر هذا هلال العام الهجري الجديد يطلع ليذكرنا بالنور الذي تفجر من جبل حراء الذي نزل عليه دعوة الحق والخير والصلاح للبشرية جمعاء- ليشرق على مكة، ويشرق بالهجرة على المدينة المنور، ثم يتسع لينير العالم كله.

     والهجرة شأنها عظيم و أمرها جسيم، وعليه قص الله تعالى في القرآن الكريم قصص من هاجر من الأنبياء من إبراهيم ولوط وموسى ومحمد عليهم السلام. قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم:﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات/99] وقال: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [العنكبوت/26]، وقال عن هجرة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوٰتٌ وَمَسٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]. وقال أيضا: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنٰهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد:13].

     والهجرة النبوية تحمل في ثناياها دروسًا وعبرًا منها: قيمة الوقت وأهميته؛ فقد عمل الرسول –صلى الله عليه وسلم-  ليل نهار في مكة لايخشى في الله لومة لائم، ولايردعه تهديد أوطمع عن دعوة العباد إلى رب العباد وعن تربية أصحابه وإعدادهم إعدادًا جعل العقيدة الإسلامية أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وأزواجهم وعشيرتهم وأموالهم التي يقترفونها والتجارة التي يخشون كسادها ومساكن يرضونها. وبعد ثلاثة عشر عاماً لا يهدأ فيها للرسول والمسلمين بال، ولايذوقون لذيذ الطعام والشراب، ثلاثة عشرعاماً من العمل الدؤوب والجهد المتواصل، والتخطيط العميق، والتربية المثلى يُخيَّرون بين رغد العيش وسعة المال وبين الخشونة والغربة والهجرة فيختارون ما اختارلهم الله ورسوله من الهجرة في سبيله.

     وحَدثُ الهجرة يحمل في ثناياه كثيرًا من المعاني السامية: الشجاعة والتضحية والصبر والتوكل على الله تعالى وعلى نصره والاعتزازبه مهما اشتد كيد الأعداء، كما أنه- هذا الحدث- غيَّر مجرى التاريخ وشكل منعطفًا هامًا في الدعوة الإسلامية. وبذرالرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة النواة الأولى للدولة الإسلامية، واتخذ من مسجده منطلقًا لدعوة الخير والصلاح والفلاح، وأقام فيه المسلمون شعائر دينهم، وعقدوا فيه اجتماعاتهم ينظرون في شؤونهم العامة. فأخذت الدعوة الإسلامية تنتشر في القبائل العربية، ولم يمض إلا زمن يسير حتى أصبحت المدينة المنورة مركز إشعاع للدعوة الإسلامية، ومحط أنظار قبائل العرب، مرهوب الجانب موطد الأركان، يُحسَبُ له ألف حساب.

     إن حدث الهجرة يذكِّر المسلمين أن لاصلاح لهم ولا فلاح إلا بما صلح به أولهم، وأن الرجوع إلى هداية التوحيد والاعتصام بحبله بعد الشقاق والخصام هو الذي يضمن لهم العز والكرامة والانتصار على الأعداء والرقي والتطور في جميع مجالات الحياة، قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال/46]، وقال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا [آلعمران/137] وقال: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد/11].

     فما أحوج المسلم اليوم وهويستقبل عامًا هجريًا جديدًا أن يعي هذه المعاني ويعيش معها بقلبه وعقله، ومشاعره ويستفيق من غفلته وينتبه من غفوته. فهل من مدكر؟                                  [التحرير]

 

(تحريراً في الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الأربعاء: 24/ذوالقعدة 1436هـ = 9/سبتمبر 2015م)

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1437 هـ = أكتوبر – ديسمبر 2015م ، العدد : 1- 2 ، السنة : 40